فصل: تفسير الآيات (15- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (15- 19):

قوله تعالى: {كَلَّا لئن لم ينته لَنَسْفَعًا بالناصية (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خاطئة (16) فَلْيَدْعُ ناديه (17) سَنَدْعُ الزبانية (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ واقترب (19)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا الخبيث معرضاً عن هذا العلم الذي هو معترف به كله، وإنما كان إعراضه لما عنده من الحظوظ والشهوات الموقعة له- بحكم الرد أسفل سافلين- إلى رتبة البهائم، أتى بأعظم أدواث الردع فقال: {كلا} أي ليس عنده علم بشيء من ذلك لسفول رتبته عن رتبة البهائم ولا في يده شيء من الأشياء، فهو لا يقدر على شيء مما رامه من الأذى، فليرتدع عن تعاطي ذلك لأنه لا يضر إلا نفسه.
ولما كان نفي العلم عنه يوهم أنه في عداد الغافلين الذي لا ملامة عليهم، بين أن انتفاء العلم عنه ليس عن غفلة يعذر صاحبها، إنما هو عن تهاون بالخير ورضى بالعمى والتقليد، فهو من قسم الضال الذي فرط في استعمال القوة العلمية المذكور في الفاتحة، فاستأنف الإخبار عنه في جواب من يقول: فما يفعل به؟ معبراً بأداة الشك إقامة له ولغيره في محل الرجاء لانتهائه إبقاء للتكليف ومؤكداً لأنهم منكرون: {لئن لم ينته} أي يفتعل هذا الناهي لهذا العبد المطيع فيقف ويكف عما هو فيه من نهيه وتكذيبه وتوليه.
ولما كان الحال غير محتاج إلى أكثر من التأكد لإيقاع الفعل، عبر بالحقيقة ولم ينقلها إشارة إلى أن هذا الناهي أقل من أن يحتاج فيه إلى فعل شديد، بل أقل نفحة من العذاب تكفي في إهلاكه، وما كان أصل التأكيد إلاّ تطيبباً لقلوب الأولياء وتكذيباً للأعداء فقال: {لنسفعاً} أي والله لنأخذن ونقبضن قبضاً وأخذاً بشدة وعنف مع الجر والاجتذاب واللطم والدفع والغيظ أخذ من يعض مأخوذه ويذله ويسود وجهه ويقذره {بالناصية} أي بالشعر الذي في مقدم رأسه وهو أشرف ما فيه، والعرب لا تأنف من شيء أنفتهم من أخذ الناصية، وإذا انتهكت حرمة الأشرف فما بالك بغيره، واستغنى بتعريف العهد عن الإضافة.
ولما كان من المعلوم أن من صار في القبضة على هذه الهيئة المهينة المزرية فهو هالك، اغتنى به عن أن يقول: ولنسحبنه بها على وجهه إلى النار، ووصفها بما يدل على ذلك فقال مبدلاً لأن البدل وصف بما قربه من المعرفة: {ناصية} أي عظيمة القبح {كاذبة} أي متعمدة للكذب {خاطئة} فهي صادر عنها الذنب من الكذب وغيره من غير تعمد، فأغلب أحوالها على غير صواب تارة عن عمد وتارة عن غير عمد، وما ذاك إلا لسوء جبلة صاحبها حتى كاد لا يصدر عنه فعل سديد، ووصفها بما هو لصاحبها على الإسناد المجازي مبالغة في تكذيبه في أنه لا يقدر على منع المهتدي أو إذلاله أو شيء من أذاه إلا إن أذن له صاحب الأمر كله فيما يكون سبباً لزيادة رفعته، وفي العدول عن الحقيقة، كأن يقال: ناصية كاذب خاطئ، بالإضافة إلى هذا المجاز، من الجزالة والفخامة والجلالة ما لا يخفى.
ولما كان هذا هو غاية الإهانة، وكان الكفار إنما يقصدون بأعراضهم الشماخة والأنفة والعز عن أن يكونوا أتباعاً أذناباً، وإنما عزهم بقومهم، وأقرب من يعتز به الإنسان أهل ناديه، وهم القوم الذين يجتمعون نهاراً ليحدث بعضهم بعضاً ويستروح بعضهم إلى بعضهم لما عندهم من التصافي لأنهم لا يتركون أشغالهم نهاراً ويجتمعون لذلك إلا عن ذلك، قال تعالى مسبباً عن أخذه على هذا الوجه المزري: {فليدع} أي دعاء استغاثة {ناديه} أي القوم الذين كانوا يجتمعون معه نهاراً يتحدثون في مكان ينادي فيه بعضهم بعضاً من أنصاره وعشيرته ليخلصوه مما هو فيه، والذي نزلت فيه هو أبو جهل، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً.
ولما كان كأنه قيل: فلو دعا ناديه يكون ماذا؟ قال: {سندع} أي بوعد لا خلف فيه {الزبانية} أي الأعوان الموكلين بالنار ليجروه إليها، وهم في الأصل الشرط، الواحد زبنية كهبرية، من الزبن وهو الدفع أو زبني على النسبة، أصلها زباني والتاء عوض عن الياء، وهم كل من عظم خلقه، واشتد بطشه، وقد اجتمعت المصاحف العثمانية على حذف الواو من هذا الفعل خطأ، ولا موجب لحذفه من العربية لفظاً، وكأن المعنى في ذلك- والله أعلم- أن لا يظن أنهم دعوا لرفعة لهم في ذواتهم يستعان بهم بسببها لأن معنى الواو عند الربانيين العلو والرفعة، إشارة إلى أنهم لا قوة لهم إلا بالقوي العزيز، أو يقال: إن الحذف دال على تشبيه الفعل بالأمر ليدل على أن هذا الدعاء أمر لابد من إيقاع مضمونه، ومن إجابة المدعوين إلى ما دعوا إليه، وأن ذلك كله يكون على غاية الإحكام، والاتساق بين خطه ومعناه والانتظام، لاسيما مع التأكيد بالسين، الدال على تحتم الاتحاد والتمكين، أو يكون المعنى: إنا ندعوهم بأيسر دعاء وأسهل أمر، فيكون منهم ما لا يطاق ولا يستطاع دفاعه بوجه، فكيف لو أكدنا دعوتهم وقوينا عزمتهم.
ولما كان الذي تقدم نهي الناهي للمصلي والسفع بناصيته إن لم ينته وأمره بدعاء ناديه، وكان الحكم في الأول أنه لا يجيبه إلى ترك الصلاة، وفي الثاني أن الناهي لا ينتهي عن عصيانه بالتهديد وأنه لا يفيده دعاء ناديه، فالكل منفي، حسن كل الحسن الإتيان بأداة الردع فقال: {كلا} أي لا يقدر على دعاء ناديه ولا ينتهي عن أذاه للمطيع بالتهديد فليرتدع عن كل من ذلك.
ولما كان كأنه قيل: فما أفعل؟ قال معرفاً أن من علم أن طبع الزمان وأهله الفساد، وجب عليه الإقبال على شأنه والإعراض عن سائر العباد {لا تطعه} أي في نهيه لك عن الطاعة بالصلاة أو غيرها.
ولما كان نهيه عن الصلاة التي هي عماد الدين، وكانت الصلاة يعبر عنها بالسجود لأنه- مع أنه جزؤها- هو أشرفها، وهو أيضاً يطلق على مطلق العبادة، قال تعالى مشيراً إلى النصر له- صلى الله عليه وسلم ولأتباعه على كل من يمنعهم عبادته: {واسجد} أي دم على صلاتك وخضوعك بنفسك وجدد ذلك في كل وقت.
ولما كان السجود أقرب مقرب للعبد إلى الله قال: {واقترب} أي اجتهد بسرك في بلوغ درجة القرب إلى ربك والتحبب إليه بكل عبادة لاسيما الصلاة فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وقد شرح هذا المقام كما تقدم في الفاتحة قوله- صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بعفوك من عقوبتك» فإن هذه الجملة أفادت- كما قال الإمام الغزالي في كتاب الشكر- مشاهدة أفعال الله فقط، فكأنه لم ير إلا الله وأفعاله، فاستعاذ بفعله من فعله، قال: ثم اقترب ففني في مشاهدة الأحوال، وترقى إلى مصادر الأفعال، وهي الصفات، فقال: «أعوذ برضاك من سخطك» وهما صفتان، ثم رأى ذلك نقصاناً في التوحيد فاقترب وترقى من مقام مشاهدة الصفات إلى مشاهدة الذات فقال: «وأعوذ بك منك» فراراً منه إليه من غير رؤية فعل وصفة، ولكنه رأى نفسه فاراً منه إليه ومستعيذاً ومثنياً ففني عن مشاهدة نفسه إذا رأى ذلك نقصاناً فاقترب فقال: «أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصي ثناء عليك» فقوله: «لا أحصي» خبر عن- فناء نفسه وخروجه عن مشاهدتها، وقوله: «أنت كما أثنيت» بيان أنه المثني والمثنى عليه، وأن الكل منه بدأ وإليه يعود، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، فكان أول مقامه نهاية مقامات الموحدين وهو أن لا يرى إلا الله وأفعاله فيستعيذ بفعل من فعل، فانظر إلى ماذا انتهت نهايته إذا انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق، ولقد كان- صلى الله عليه وسلم لا يرقى من مرتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعداً بالإضافة إلى الثانية، فكان يستغفر الله من الأولى، ويرى ذلك نقصاً في سلوكه وتقصيراً في مقامه، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» فكان ذلك لترقيه إلى سبيعن مقاماً بعضها يعد نقصاً لنقص أوائلها وإن كان مجاوزاً أقصى غايات مقامات الخلق، ولكن كان نقصاناً بالإضافة إلى أواخرها، فكان استغفاره لذلك.
ولما قالت عائشة رضى الله عنه ا: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فما هذا البكاء في السجود وما هذا الجهد الشديد؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً» معناه: أفلا أكون طالباً للمزيد في المقامات، فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى: {ولئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7] انتهى.
وهو على ما ترى من النفاسة فمن أكثر من الدعاء في سجوده فقمن أن يستجاب له، والصلاة لا تكون إلا بالقراءة فإذا فعلت ذلك احتجبت عن الأغيار بحجاب منيع، فازددت صفاء وصنت حالك عن الغير- كما يرشد إليه ما في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام (ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه- والله أعلم) فقد رجع آخرها إلى الأول، على أحسن وجه وأجمل وأكمل- والله الهادي. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{كَلَّا لئن لم ينته لَنَسْفَعًا بالناصية (15)}
ثم قال تعالى: {كَلاَّ} وفيه وجوه:
أحدها: أنه ردع لأبي جهل ومنع له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات.
وثانيها: كلا لن يصل أبو جهل إلى ما يقول إنه يقتل محمداً أو يطأ عنقه، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره.
وثالثها: قال مقاتل: كلا لا يعلم أن الله يرى وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بما يعلم فكأنه لا يعلم.
ثم قال تعالى: {لئن لم ينته} أي عما هو فيه: {لَنَسْفَعاً بالناصية نَاصِيَةٍ كاذبة خاطئة} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في قوله: {لَنَسْفَعاً} وجوه:
أحدها: لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار، والسفع القبض على الشيء، وجذبه بشدة، وهو كقوله: {فَيُؤْخَذُ بالنواصى والأقدام} [الرحمن: 41].
وثانيها: السفع الضرب، أي لنلطمن وجهه.
وثالثها: لنسودن وجهه، قال الخليل: تقول للشيء إذا لفحته النار لفحاً يسيراً يغير لون البشرة قد سفعته النار، قال: والسفع ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر سميت بذلك لسوادها، قال: والسفعة سواد في الخدين.
وبالجملة فتسويد الوجهعلامة الإذلال والإهانة ورابعها: لنسمنه قال ابن عباس في قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16] إنه أبو جهل خامسها: لنذلنه.
المسألة الثانية:
قرئ {لنسفعن} بالنون المشددة، أي الفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة، كما قال: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه وَجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] وقرأ ابن مسعود {لأسعفن}، أي يقول الله تعالى يا محمد. أنا الذي أتولى إهانته، نظيره: {هُوَ الذي أَيَّدَكَ} [الأنفال: 62]، {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة} [الفتح: 4].
المسألة الثالثة:
هذا السفع يحتمل أن يكون المراد منه إلى النار في الآخرة وأن يكون المراد منه في الدنيا، وهذا أيضاً على وجوه:
أحدها: ما روي أن أبا جهل لما قال: إن رأيته يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله هذه السورة، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأ على أبي جهل ويخر لله ساجدًّا في آخرها ففعل، فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه، فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعاً، فقيل له مالك؟ قال: إن بيني وبينه فحلاً فاغراً فاه لو مشيت إليه لالتقمني، وقيل: كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه في صورة الأسد.
والثاني: أن يكون المراد يوم بدر فيكون ذلك بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجرونه إلى القتل إذا عاد إلى النهي، فلما عاد لا جرم مكنهم الله تعالى من ناصيته يوم بدر، روى أنه لما نزلت سورة الرحمن علم القرآن قال عليه السلام لأصحابه «من يقرؤها منكم على رؤساء قريش،» فتثاقلوا مخافة أذيتهم، فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول الله، فأجلسه عليه السلام، ثم قال: «من يقرؤها عليهم» فلم يقم إلا ابن مسعود، ثم ثالثاً كذلك إلى أن أذن له، وكان عليه السلام يبقي عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه، فانصرف وعيناه تدمع، فلما رآه النبي عليه السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموماً، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكاً مستبشراً، فقال: يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي! فقال: ستعلم، فلما ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين، فأخذ يطالع القتلى. فإذا أبو جهل، مصروع يخور، فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه، ولعل هذا معنى قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16] ثم لما عرف عجزه ولم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباً، فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فقال أبو جهل: بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلى منه في حياتي ولا أبغض إلى منه في حال مماتي، فروى أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال: «فرعوني أشد من فرعون موسى فإنه قال: {ءامَنتُ} وهو قد زاد عتواً» ثم قال لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله، ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفاً لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه:
أحدها: أنه كلب والكلب يجر.
والثاني: لشق الأذن فيقتص الأذن بالأذن.
والثالث: لتحقيق الوعيد المذكور بقوله: {لَنَسْفَعاً بالناصية} فتجر تلك الرأس على مقدمها.
ثم إن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل بين يديه يضحك، ويقول: يا محمد أذن بأذن لكن الرأس هاهنا مع الأذن، فهذا ما روي في مقتل أبي جهل نقلته معنى لا لفظاً، الخاطئ معنى قوله: {لَنَسْفَعاً بالناصية}.
المسألة الرابعة:
الناصية شعر الجبهة وقد يسمى مكان الشعر الناصية، ثم إنه تعالى كنى هاهنا عن الوجه والرأس بالناصية، ولعل السبب فيه أن أبا جهل كان شديد الاهتمام بترجيل تلك الناصية وتطييبها، وربما كان يهتم أيضاً بتسويدها فأخبره الله تعالى أنه يسودها مع الوجه.
المسألة الخامسة:
أنه تعالى عرف الناصية بحرف التعريف كأنه تعالى يقول: الناصية المعروفة عندكم ذاتها لكنها مجهولة عندكم صفاتها ناصية وأي ناصية كاذبة قولاً خاطئة فعلاً، وإنما وصف بالكذب لأنه كان كاذباً على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً وكاذباً على رسوله في أنه ساحر أو كذاب أو ليس بنبي، وقيل: كذبه أنه قال: أنا أكثر أهل هذا الوادي نادياً، ووصف الناصية بأنها خاطئة لأن صاحبها متمرد على الله تعالى قال الله تعالى: {لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون} [الحاقة: 37] والفرق بين الخاطئ والمخطئ أن الخاطئ معاقب مؤاخذ والمخطئ غير مؤاخذ، ووصف الناصية بالخاطئة الكاذبة كما وصف الوجوه بأنها ناظرة في قوله تعالى: {إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القياة: 23].
المسألة السادسة:
{نَاصِيَةٍ} بدل من الناصية، وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة، لأنها وصفت فاستقلت بفائدة.
المسألة السابعة:
قرئ {ناصية} بالرفع والتقدير هي ناصية، و{ناصية} بالنصب وكلاهما على الشتم، واعلم أن الرسول عليه السلام لما أغلظ في القول لأبي جهل وتلا عليه هذه الآيات، قال: يا محمد بمن تهددني وأني لأكثر هذا الوادي نادياً، فافتخر بجماعته الذين كانوا يأكلون حطامه، فنزل قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ ناديه سَنَدْعُ الزبانية}. وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قد مر تفسير النادي عند قوله: {وَتَأْتُونَ في نَادِيكُمُ المنكر} [العنكبوت: 29] قال أبو عبيدة: ناديه أي أهل مجلسه، وبالجملة فالمراد من النادي أهل النادي، ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله، وسمي نادياً لأن القوم يندون إليه نداً وندوة، ومنه دار الندوة بمكة، وكانوا يجتمعون فيها للتشاور، وقيل: سمي نادياً لأنه مجلس الندى والجود، ذكر ذلك على سبيل التهكم أي: اجمع أهل الكرم والدفاع في زعمك لينصروك.
المسألة الثانية:
قال أبو عبيدة والمبرد: واحد {الزبانية} زبنية وأصله من زبنية إذا دفعته وهو متمرد من إنس أو جن، ومثله في المعنى والتقدير عفرية يقال: فلان زبنية عفرية، وقال الأخفش: قال بعضهم واحده الزباني، وقال آخرون: الزابن، وقال آخرون: هذا من الجمع الذي لا واحد له من لفظه في لغة الغرب مثل أبابيل وعباديد وبالجملة فالمراد ملائكة العذاب، ولا شك أنهم مخصوصون بقوة شديدة.
وقال مقاتل: هم خزنة جهنم أرجلهم في الأرض ورؤسهم في السماء، وقال قتادة: {الزبانية} هم الشرط في كلام العرب وهم الملائكة الغلاظ الشداد، وملائكة النار سموا {الزبانية} لأنهم يزبنون الكفار أي يدفعونهم في جهنم.
المسألة الثالثة:
في الآية قولان:
الأول: أي فليفعل ما ذكره من أنه يدعو أنصاره ويستعين بهم في مباطلة محمد، فإنه لو فعل ذلك فنحن ندعو الزبانية الذين لا طاقة لناديه وقومه بهم، قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته الزبانية من ساعته معاينة، وقيل: هذا إخبار من الله تعالى بأنه يجر في الدنيا كالكلب وقد فعل به ذلك يوم بدر، وقيل: بل هذا إخبار بأن الزبانية يجرونه في الآخرة إلى النار القول.
الثاني: أن في الآية تقديماً وتأخيراً أي لنسفعاً بالناصية وسندع الزبانية في الآخرة، فليدع هو ناديه حينئذ فليمنعوه.
المسألة الرابعة:
الفاء في قوله: {فَلْيَدْعُ ناديه} تدل على المعجز، لأن هذا يكون تحريضاً للكافر على دعوة ناديه وقومه، ومتى فعل الكافر ذلك ترتب عليه دعوة الزبانية، فلما لم يجترئ الكافر على ذلك دل على ظهور معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم.
المسألة الخامسة:
قرئ: {ستدعى} على المجهول، وهذه السين ليست للشك فإن عسى من الله واجب الوقوع، وخصوصاً عند بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ينتقم له من عدوه، ولعل فائدة السين هو المراد من قوله عليه السلام: «لأنصرنك ولو بعد حين».
{كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ واقترب (19)}
ثم قال: {كَلاَّ} وهو ردع لأبي جهل، وقيل: معناه لن يصل إلى ما يتصلف به من أنه يدعو ناديه ولئن دعاهم لن ينفعوه ولن ينصروه، وهو أذل وأحقر من أن يقاومك، ويحتمل: لن ينال ما يتمنى من طاعتك له حين نهاك عن الصلاة، وقيل معناه: ألا لا تطعه.
ثم قال: {لاَ تُطِعْهُ} وهو كقوله: {فَلاَ تُطِعِ المكذبين} [القلم: 8]، {واسجد} وعند أكثر أهل التأويل أراد به صل وتوفر على عبادة الله تعالى فعلاً وإبلاغاً، وليقل فكرك في هذا العدو فإن الله مقويك وناصرك، وقال بعضهم: بل المراد الخضوع، وقال آخرون: بل المراد نفس السجود في الصلاة.
ثم قال: {واقترب} والمراد وابتغ بسجودك قرب المنزلة من ربك، وفي الحديث: «أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد» وقال بعضهم المراد: اسجد يا محمد، واقترب يا أبا جهل منه حتى تبصر ما ينالك من أخذ الزبانية إياك، فكأنه تعالى أمره بالسجود ليزداد غيظ الكافر، كقوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} [الفتح: 29] والسبب الموجب لازدياد الغيظ هو أن الكفار كان يمنعه من القيام، فيكون غيظه وغضبه عند مشاهدة السجود أتم، ثم قال عند ذلك: واقترب منه يا أبا جهل وضع قدمك عليه، فإن الرجل ساجد مشغول بنفسه، وهذا تهكم به واستحقار لشأنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.